عاشت حياة مليئة بالعوائق والتحديات، لكنها لم تلن ولم ترفع رايات الإستسلام قط، وإستطاعت أن تسطر إسمها بحروف من نور بين عظيمات النساء، ليتعلم منها الجميع الصبر والمثابرة والجلد والجهد الدءوب والبذل والعطاء بلا حدود.. إنها السيدة الفاضلة فاطمة العاقل، أم الكفيفات، وواحدة من أهم رائدات العمل الخيري باليمن.
ولدت فاطمة العاقل في اليمن في بداية الستينيات من القرن الماضي، جاءت إلى الدنيا وهي مصابة بالمياه الزرقاء، ذلك المرض الذي يؤدي إلى تلاشي النظر تدريجيا مع مرور الزمن.
رحلت عن اليمن مع بعض أفراد عائلتها إلى مصر لتبدأ حياتها الدراسية بإحدى مدارس القاهرة الإبتدائية، ومع مرور الوقت أخذ نظرها يضعف بشكل تدريجي، حتى أنها في الصف السادس الابتدائي كانت والدتها تطلب من إخوتها أن يعيدوا الكتابة فوق الكلمات بكتبها لتكون بارزة، ليساعدها ذلك على أن تراها، وكان أخوتها يساعدونها في دراستها من خلال إملاء الكلمات عليها، ويسطرون لها الدفاتر لتكتب عليها بطريقة أفضل وأيسر.
[] تميز مبكر:
وضعف بصرها هذا جعلها أقل حركة من أخواتها، فكان لا تستطيع أن تتحرك كما يتحركون، لكن ذلك أورثها سمات عديدة تميزت بها شخصيتها، فكانت كثيرة التأمل والتفكير، وكانت القراءة حبها الأول في الحياة، فكانت تقرأ وهي في المرحلة الإبتدائية كتب المنفلوطي وقصص يوسف السباعي، وفي المرحلة الإعدادية بدأت تقرأ في السياسة والإجتماع والإقتصاد والطب وغيرها من ألوان الثقافة والعلوم، وكانت تمتد قراءتها وهي بالمرحلة الإعدادية في اليوم إلى ثمان ساعات، مستخدمة في ذلك عدسة مكبرة، لتتغلب بها على ضعف بصرها.
كما أن ضعف بصرها منحها القدرة على التركيز على كل ما هو مهم دون غيره، فكانت قادرة على ترتيب أولوياتها في الحياة بشكل ناجح، وتعلمت أيضا أن تستفيد من كل القدرات المتاحة لها لتحقق ما تصبوا إليه، وأكسبها ضعف بصرها القدرة على التلخيص سواء في حواراتها أو حديثها أو غير ذلك.
[] إحساس بالآخرين:
وفي المرحلة الثانوية التحقت بإحدى مدارس الكفيفات الداخلية، لكنها أخذت إستثناء من الإقامة الداخلية، وظلت تذهب إلى المدرسة صباحا وتعود لبيتها بعد إنتهاء اليوم الدراسي، وكانت زميلاتها بالمدرسة فقيرات إلى حد كبير، فكانت تحرص على مراعاة مشاعرهن، خاصة وأن أسرتها ميسورة الحال، فكانت تتعامل معهم بأريحية ودون تعال عليهن، وتذهب لتشتري بعض الطعام وتشعرهن أنها تأكل معهن دون أن تمد يدها إلى الطعام.
وإستمرت بهذه المدرسة حتى التحقت بقسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وخلال هذه المرحلة فقدت بصرها تماما، فلم تكن تستطيع الذهاب إلى الجامعة إلا في صحبة أخوتها.
[] بحث عن دور فاعل
وبعد أن أنهت دراستها الجامعية عادت إلى اليمن لتبدأ حياتها العملية هناك، وشعر والدها بما قد تعانيه من صعوبات في إيجاد فرصة عمل مناسبة لها مع فقدها الكامل لبصرها، وما قد يجره ذلك عليها من آثار نفسية، فعرض عليها أن تعمل معه كسكرتيرة مقابل راتب شهري كبير، لكنها رفضت هذا العرض المغري، لأنها رأت أن ذلك لا يرضي طموحاتها العملية والمهنية.
وبقيت باليمن لمدة ستة أشهر، ولكنها شعرت بالضيق والملل، فهي لم تعتد حياة السكون والراحة، وكذلك شعرت بالضجر من نظرة أقاربها إليها على أنها عالة على والدها، خاصة أن جميع إخوتها قد تزوجوا ولم تبق إلا هي وأختها زينب، التي تصغرها، وكانت كفيفة أيضا، فقررت أن تغادر اليمن عائدة إلى القاهرة مرة أخرى، مصممة على أن يكون لها دور فاعل في الحياة.
وفي إحدى الليالي صلت بعض الركعات، ثم توجهت إلى الله تعالى بالدعاء أن يجعل لها مخرجا من الفراغ الذي تعانيه، فإستيقظت في الصباح على صوت صديقتها بالهاتف لتخبرها أن هناك مدرسة للمكفوفين تطلب مدرسات للعمل بها، فتقدمت للمدرسة وعملت بها لمدة 6 سنوات، وهي مدة بقائها بالقاهرة.
[] عون لطلابه:
وأثناء عملها بالمدرسة كانت تبذل كل الجهد لترتقي بطالباتها، وتحرص على أن تبث فيهم روح الأمل والمثابرة، ودون كلل أو ملل في مد يد العون لهم، وها هي واحدة من طالباتها كانت تعاني من ضعف شديد بالذاكرة، فكلما بذلت معها جهدا في تعليمها لبعض دروسها، وبعد أن تستوعبها الفتاة، فسريعا ما تنسى ذلك، فأصرت أن تبحث عن سبب لذلك لتساعد الفتاة على تحسين مستواها، فعادت لملف الفتاة فوجدتها تعاني من مرض يؤدي إلى إضطرابات الهرمونات لديها، مما يؤثر على ذاكرتها، فساعدتها على علاج هذا المرض، حتى أصبحت هذه الفتاة قادرة على متابعة دراستها بشكل جيد، وتخرجت من إحدى كليات جامعة القاهرة.
[] عزيمة صادقة:
وعادت فاطمة العاقل إلى اليمن بعد 6 سنوات، لتعمل كأخصائية إجتماعية بمركز النور للمكفوفين التابع لوزارة الشئون الإجتماعية، فوجدت كل طلاب المعهد من الذكور، ولا توجد فتاة واحدة بالمركز، وذلك لصعوبة التحاق الفتيات بالمركز، فشعرت بالضيق من حرمان الكفيفات من التعليم، فقررت أن تعمل لإنشاء معهد خاص بالفتيات.
وتقدمت بالفعل في عام 1994م بطلب لوزير الشئون الاجتماعية، ولكن ظروف اليمن في ذلك الوقت كان عائقا لتحقيق هذا الطلب، فشعرت بالضيق لعجزها عن تحقيق ذلك الطموح، ولكن دون مقدمات ولا إعلان منها عما تسعى إليه، وجدت شخصا لا تعرفه يعرض عليها مبنى به 15 غرفة، ويقترح عليها أن تؤسس به معهدا للفتيات المكفوفات، فسعدت بذلك وشعرت أن الله تعالى أراد أن يحقق لها ما تصبو إليه من مساعدة للكفيفات ليحصلن على ما يحصل عليه غيرهن من التعليم.
[] تحدي العقبات:
وما إن بدأت في تجهيز المعهد إلا وجدت أمامها تحديات كبيرة تعوقها عن تحقيق حلمها، فلم تستطع جمعية الكفيفات التي ترأسها أن تسد حاجات المعهد بإمكاناتها البسيطة مثل أن تنفق على إعداد المعهد لإستقبال الطالبات، فأصرت على ألا تستسلم لذلك التحدي، فسافرت إلى السعودية لتقنع بعض أقاربها ميسوري الحال بالتبرع لإعداد المعهد، وبالفعل نجحت في ذلك، فعادت على الفور إلى القاهرة لتشتري منها المعدات والأدوات اللازمة للمعهد، وبدأ المعهد في إستقبال الفتيات الكفيفات، ليكون ذلك أول معهد علمي للفتيات باليمن.
ومع زيادة إقبال الفتيات على المعهد، وزيادة عددهن، وتزايد إحتياجات المعهد وأعبائه المادية، قررت أن تسعى لتأسيس جمعية رسمية، يمكنها من خلالها أن تجمع التبرعات للمعهد بطريقة تضمن لها الإستمرارية في أداء دوره التعليمي، فأسست جمعية الأمان للكفيفات، ليصبح هذا المعهد صرحا كبيرا تتعلم فيه الكفيفات.
[] سعي للتطوير:
وكانت حريصة على تطوير الأداء داخل المعهد، فسعت لطبع الكتب الدراسية طباعة بارزة لتمكن الطالبات من التعامل مع المناهج بطريقة ميسرة، فكان ثمرة سعيها وجهدها في ذلك أن أصبح بمعهدها أول طابعة خاصة بكتب بالمكفوفين في اليمن، وإستطاعت من خلالها أن تطبع المناهج الدراسية للمكفوفين من المرحلة الابتدائية وحتى الثانوية، بل وإمتد الأمر لأوسع من ذلك فأصبحت تطبع كثيرا من الكتب التي يحتاجها المكفوفين بشكل عام في اليمن.
وأثناء سفرها لحضور بعض المؤتمرات وجدت الكفيفات يستخدمن الكمبيوتر المحمول -اللاب توب- فكانت تسعى لأن يصل بنات المعهد إلى ذلك المستوى من إستخدام التكنولوجيا الحديثة، ولكن أنى لها هذا وهن لا يستطعن شراء ذلك الجهاز الذي يصل ثمنه إلى ألف دولار والبرنامج المخصص للكفيفات يصل إلى خمسمائة دولار، ولكن إصرارها لم يقعدها عن السعي لتحقيق ذلك الطموح لطالباتها، فذهبت إلى أحد الوزراء وطلبت منه أن يوفر لها هذه الأجهزة، فكانت المفاجأة أن وفر لها كل ما تحتاجه من أجهزة لفتيات المعهد على غير توقع، فسعدت بذلك وشكرت الله تعالى على ذلك العطاء الذي لم تكن تتوقع أن يتم بهذا اليسر.
[] جهد لا ينقطع:
وجهدها وبذلها لم يتوقف عند حد إدارتها لمعهد الحلالي وجمعية الأمان فقط، ولكنه إمتد في العديد من المؤسسات الإجتماعية الأخرى، فقد أسست ورأست مؤسسة خذ بيدي الخيرية التنموية باليمن، وساهمت في تأسيس هيئة التنسيق للمنظمات اليمنية غير الحكومية لحقوق الطفل، وكانت عضوا في العديد من المنظمات العربية والدولية مثل: المنظمة العربية للمعاقين ومقرها بيروت، والاتحاد العالمي للمكفوفين ومقره استراليا، ومنظمة التأهيل الدولي، واتحاد آسيا للمكفوفين ومقره الهند، كما عملت كمدربة وإستشارية للكثير من منظمات المجتمع المدني.
ولم تعرف العاقل كللا ولا نصبا في سعيها للإرتقاء بالمجتمع اليمني بشكل عام، وبالمكفوفين والمعاقين بشكل خاص، فكانت تبذل جهودا كبيرة ومضنية، لا يقوى عليها إلا أولات العزم من أصحاب الهمم العالية، فكانت تعمل في الدوام الرسمي لساعات طوال، وبعد ذلك تستمر في الإجتماعات والإطلاع وكتابة التقارير والمهام الإجتماعية الأخرى لوقت متأخر من الليل، فلا تنال من النوم إلا ثلاث ساعات فقط.
ورغم هذا الجهد الكبير والعمل الدءوب، كانت تشعر بحاجة لمزيد من الوقت لتنجز فيه المزيد من الأعمال، فكانت دائما ما تقول: أتمنى لو أن اليوم 48 ساعة وليس 24 ساعة.
[]أحلام لم تتحقق:
وخططت العاقل لتؤسس عددا من المشروعات الإجتماعية التي تخدم المكفوفين، ومن هذه المشروعات: مشروع روضة الضياء للمعاقات بصريا، ومشروع التنمية الثقافية لمكفوفي اليمن، ومشروع المكتبة المركزية للمكفوفين، ومشروع مجلة الضياء، ومشروع التأهيل المنزلي للكفيفات...
ولكن إرادة الله كانت أسبق إليها، فأثناء تواجدها بالقاهرة التي قضت بها معظم عمرها، وافتها المنية يوم الخميس 12/1/2012م، لترحل عنا بعد أن نشرت الأمل في نفوس الكثيرات من النساء، وبعد أن ملأت وطنها حباً وعزيمة وعطاءً، وبعد جهد بالغ وسنوات طوال من البذل والعمل الدءوب، فرحمها الله رحمة واسعة، وجعل سعيها وعملها في ميزان حسناتها.
الكاتب: أ. ياسر محمود.
المصدر: المنتدي الإسلامي العالمي للإسرة والمرأة.